الإنابة إلى الله
الحمد لله رب العالمين نحمده تعالى كما ينبغي لجلال وجهه، ونشكره جل وعلا كما يليق بعظيم سلطانه ونشهد ألا إله إلا الله دعا لمصاحبة المنيبين إليه فقال في محكم كتابه:
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
ونشهد أن سيدنا محمدا رسول الله أشاد بمن يطول عمْرهُ في طاعة الله فيختمه بالإنابة إلى الله فقال:
لا تَمنَّوا المَوْتَ فإنَّ هَوْلَ المَطْلِعِ شَدِيدٌ، وإنَّ مِنَ السَّعَادَةِ أنْ يَطُولَ عُمْرُ العَبْدِ وَيَرْزُقَهُ الله الإنابَةَ
اللهم أطل أعمارَ عبادك في طاعتك واجعلنا من أوليائك واكتب أسماءنا في سجل أحبائك. أمّا بعد فإن أفضلَ الخَلقِ وأحبَّهم إلى الله أتمُّهم عبوديّةً له وخلقا وإن سرورَ قلبِ المرء وشَرْحَ صدرِه لَيوجَدُ في إنابتهِ إلى ربه. ولا يتأتى ذلك لعبدٍ إلا إذا أقبل إقبالا تاما على الله بالاستعانة به والرجوع إليه. ذلك أن الإنابةَ إلى الهر عبادةٌ عظيمةٌ زاولها أنبياء الله ورسله فشهد الله لهم بذلك فقال في حق داوود عليه السلام:
فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ
وقال على لسانِ شُعيبٍ عليه السلام:
وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
بل إنه عز وجل أثنى على بعضهم لما اتصف بها فقال عز من قائل:
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ
هذا وإن حقيقةَ الإنابة هي الرجوعُ الكاملُ إلى الله وهي منزلةٌ أعلى من منزلة التوبة.. إذ التوبةُ إقلاعٌ عنِ الذنب وندَمٌ على ما فاتَ وعَزمٌ على عدَم العَودِ؛ أما الإنابةُ فتدلُّ على كل هذا وأكثر.. إذ هي توبةٌ حقيقيةٌ مشفوعة بإقبالٍ صادقٍ على اللهِ بالعِبادات، وحرصٍ أكيد ودائم على الإتيان بالنوافل والطاعات..
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وهذا الرجوع إلى الله بهذه الصفة إنما نحن مدعوون إليه وخصوصا مَع مَطلَع العامِ الجديد الذي نحن على مقربة من توديع شهرِهِ الأول! حقيقٌ بنا أن نُنيبَ جميعا إلى الله فنحاسِبَ أنفسَنا قبل فوات الأوان على ما اقتَرَفناه من ذنوب وآثام وصدق من قال:
إنَّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه وكانَتِ المحاسبَةُ هِمَّتَه.
قل لي بربك أيها المسلم الكريم إلى متى سنستمر في تداول الكذب والنفاق فيما بيننا؟ إلى متى سنظل نُصِرُّ على البهتان وقولِ الباطل وشهادةِ الزور في صفوفنا؟ إلى متى ستبقى الرشوة والتحايُلُ والخِداعُ سائدةٌ فينا؟ أما آن لنا أن نعيد النظر في مواقفنا المنافية لديننا عسى أن نفوز ببشرى ربنا؟
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى، فَبَشِّرْ عِبَادِ .. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبحديث سيد الأولين والآخرين ويرحم الله عبدا قال آمين.
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المصطفى الأمين، وبعد: إن الإنابةَ إلى اللهِ هي مفتاحُ السّعادة والهداية:
قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
وإن مما يعين على سلك درب الإنابة إلى الله لجم النفس على العصيان والاجتهادُ في محاسبتها فقد قال عليه الصلاة والسلام:
اتَّقِ المَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ
ثم إن المرء إذا أقلع عن الذنوب أخذ يجتهد في تحصيلِ زاد الطريق بقيادة نفسه إلى بَر الأمان أي إلى ما يقرِّبه من الرحمن.. ولا يتم ذلك له إلا بالمحافظَةِ على الصلاة في بيوتِ الله وبمزاولة الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن وبالذِكر المنوِّرِ للقلوب وبمجالسةِ العلماء والصالحين.. ثم أيضا تجد المنيب يكرس عمله الصالح هذا فيبَرُّ بوالديه ويصِلُ رحِمه ويسارعُ إلى معاملة الناس بالحسنى ولا يَفترُ عن إتقانِ عمله والابتعادِ عن كل أنواع الخيانة والغش والحرصِ على أن لا يضيع منه وقته عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
اغْتَنِـمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَشَبَـابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ
فيا إخوة الإيمان.. هلمُّوا..
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُون .. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ .. أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ .. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ .. بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ .. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ .. وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
اللهم اجعلنا منهم.. اللهم اهدنا إلى ما فيه رضاك وزدنا يا ربنا من فضلك واكتب لنا رحمتك وطهر قلوبنا من النفاق ونفوسنا من الرياء وأعيننا من الخيانة. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى.
اللهم يسر أمورنا وثبت قلوبنا واغفر ذنوبنا ووحد صفوفنا وكن لنا الولي والنصير والمعين والظهير أنت حسبنا فنعم المولى ونعم النصير.
اللهم قو عضدَ ولي أمرنا بالصالحين وهيئ له يا رب من أمره رشدا حتى لا يقطع أمرا ولا يأخذ بمشورة إلا لصالح الإسلام والمسلمين. اللهم أقر عينه بصلاح ولي عهده وإخلاص أسرته وشعبه. ربنا إياك سألنا ولإحسانك تعرضنا فأقبل اللهم بوجهك علينا أنت ولينا ومولانا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.. لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.